محمد فضل الله
الأربعاء 9 نيسان 2025
لماذا يَستعصي «السياسي» على قراءاتنا للأحداث؟ يستمرّ الفهم الأمني التقني في الهيمنة على تأويلنا للأحداث رغم أنه تبيّن بوضوح في الحرب الأخيرة قصور المؤسسة الأمنية وعقلها ومنطقها.
يؤدّي هذا الخلل إلى طغيان الطنين على بيئة المقاومة، المقيمة في لبنان منها والمغتربة (أي إن الابتعاد عن الميدان لم يكن له أي أثر إيجابي، كي لا يُقال إن ضغط الواقع هو الذي يتسبّب في الخلل التأويلي)؛ طنين بمعنى أنه ليس هناك سؤال يُطرَح أو جملة واضحة يمكن تحليلها، بل نوع من الهمهمة الجماعية، وبذلك نكرِّر الخطأ الذي أَوصلنا إلى هنا في المقام الأول، وهو الذي تسبّب في استمرار اللاتوازن بين الكثير من المعنويات قبل الحرب ثم الكثير من الكآبة بعدها. للأسف يريد الجميع أن يَعرف بطريقة هوليوودية بدل التحليلية حقيقة ما جرى، وحديث أحد الوجوه الحزبية إلى وسيلة إعلامية والردود عليه كلها كانت في إطار ترسيخ أزمة الفهم السياسي للظواهر، كما لو أننا محكومون بالتكرار.
لن أتحدّث في المنهج (هناك مَنْ يَعترض عليّ حين أكتب في المنهج) أو أورد عبارات مكثّفة مقعّرة؛ هناك سياقات سياسية وليس أمنية (آمل أن نصل أخيراً إلى نبذ الأمني في تحليلنا وتركه يَعمل في أضيق مساحة ممكنة) ولا حتى تكنولوجية، ولو أن أحد هذه السياقات لم يتحقّق لما وقع ما وقع، وبالتالي إن عملاً سياسياً (وليس أمنياً) كان مطلوباً لتفكيك أحدها وإيقاف مفاعيل الحرب:
- لم يكن في مقدور أي جهاز استخباراتي أن يسطو على أجهزة اتصالات وإدخال تعديلات عليها لو كانت الشركة المصنِّعة أميركية. رأينا أنه لا الشركة التايوانية ولا اليابانية قاضت إسرائيل بسبب الإضرار بسمعة الشركة والتأثير سلباً على اسمها السوقي. لو كانت الشركة أميركية، لكان الأمر مختلفاً تماماً، ولدافعت الشركة بشراسة عن اسمها السوقي في القضاء والإعلام وغيرها.
السبب في ذلك هو أن قسم الاقتصاد الأكاديمي في الولايات المتحدة هو الذي أَنتج معارف مؤداها أن التقنيات الآسيوية ليست تقنيات والسوق الآسيوي ليس سوقاً بالمعنى الحقيقي؛ فقط التكنولوجيا الأميركية هي تكنولوجيا مكتملة الأوصاف، وفقط السوق الأميركي (وشركاته وفواعله) يَعمل وفق «القوانين الطبيعية للسوق».
التشكيك بنوعية التكنولوجيا ليس مقتصراً على تلك المصنَّعة في الصين بل في آسيا عموماً (كان هناك مقال على موقع «تِك-كرانش» حول المخاطر الأمنية للأجهزة المصنَّعة في الهند لأنه من السهل تهكيرها).
كان هناك فشل إيراني في فهم سياق الحرب على غزة؛ لم تَربط طهران الحرب على غزة بحرب أوكرانيا، وكان في الإمكان في اعتقادها (خصوصاً في ظل سياسيين سخيفين كمحمد جواد ظريف) تهدئة الأوضاع في الإقليم عبر الحدّ من الهجمات
وردود الفعل الأميركية على مفاجأة منصة «ديب-سيك» للذكاء الاصطناعي هي مثال على ذلك؛ حين تحذّر وسائل الإعلام الأميركية من مخاطر التجسّس في المنصات والأجهزة الصينية، فالأمر يتعدّى المخاطر الأمنية، الفكرة هي أن هذه المنصات والأجهزة لا تَعمل كتكنولوجيا، والشركات المصنّعة لها ليست شركات تَعمل وفقاً لمنطق السوق بل مؤسسات أمنية.
الاقتصادات الآسيوية هي بالنسبة إلى قسم الاقتصاد في الجامعات الأميركية لا يُفترَض أن تَعمل لأنها غير منطقية، وهي في أفضل الأحوال «heterodox-economics»؛ بحسب الصفحات الاقتصادية المتخصصة في الولايات المتحدة، كان يُفترَض للاقتصاد الصيني أن يَنهار منذ مدة طويلة، ولكن لا بدّ أن هناك شيئاً ما غير منطقي في الثقافة الصينية يَجعلها تَعمل (وهو أحد أسباب انتقال اهتمام قسم الأدب الأميركي بروايات الواقعية السحرية من أميركا اللاتينية إلى الصين بعد أزمة 2008 المالية، إذْ هناك حاجة إلى فهم الصين واقتصادها من خارج «قواعد السوق الطبيعي»).
- القرار الإيراني بالضغط على فصائل المقاومة لوقف التصعيد ضد القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة: كان هناك فشل إيراني في فهم سياق الحرب على غزة؛ لم تَربط طهران الحرب على غزة بحرب أوكرانيا، وكان في الإمكان في اعتقادها (خصوصاً في ظل سياسيين سخيفين كمحمد جواد ظريف) تهدئة الأوضاع في الإقليم عبر الحدّ من الهجمات وفي مرحلة تالية وقف الحرب على غزة. ذكرنا سابقاً أن هذا القرار أدّى إلى عزْل تبعات الحرب على غزة عن حياة الجنود الأميركيين في الشرق الأوسط وبالتالي جعل أمد الحرب أطول بدل العكس.
- مع بدء الحرب في أوكرانيا اكتشفتْ الولايات المتحدة أنه في إمكانها تفريغ ما راكمته من معارف أقسامية (تَخلق الواقع أكثر مما تصفه) ودفْع الشعوب إلى القتال والإجهاز على الإنسان الاقتصادوي. إذا كان دونالد ترامب يُريد أموال حلفائه، فإن جو بايدن كان يريد دماء حلفائه.
وأن يكون الإعلام الأميركي إلى جانبكَ ويصفكَ بالشجاعة ويَمنحك صفة «الغربي» هو أمر غاية في التسميم ويَخلق لديكَ حالة انتشاء فائقة ويشوِّه تصوُّركَ للعالم ولوجودكَ المنطقي.
هذا ما حصل مع إسرائيل بعد 7 أكتوبر، إذْ تمّ دفْع المجتمع الإسرائيلي إلى قبول التضحيات مهما كانت من أجل درء خطر هولوكوست ثانية. لم يكن هناك على جبهة المقاومة أي جهد من أجل إيصال الرسائل إلى مختلف فئات المجتمع الإسرائيلي المتنوّع، ناهيك بعدم وجود مشروع سياسي لتفكيك هذا المجتمع.
- موت العالَم السنّي: لم يكن لهذه الحرب أن تمتدّ لكل هذه المدة لو أن العالم السنّي تحرّك ولو بالحدّ الأدنى ضد الإبادة بحقّ الفلسطينيين. لا أتحدث هنا عن مصر والأردن حيث النظام القمعي يَمنع التفاعل، بل غياب الفعالية الجدية في دول مثل تركيا وباكستان وماليزيا.
هناك هوة في «المسؤولية»، إذْ تُسأَل إيران وحلفاؤها عن كل فعل أقدموا عليه أو لم يقدموا، لكن «سلطان المسلمين» رجب طيب إردوغان (حركة حماس يُفترَض أنها جزء من أمّة «الإخوان المسلمين» وأهل غزة يُفترَض أنهم مسلمون سنّة مثله) لم يحرّك ساكناً وهو لا يُسأَل عمّا يَفعل.
وحين استولى الإسلاميون على السلطة في سوريا لم يَسألهم أحد عن سبب عدم التصدّي ولو شكلياً للغزو الإسرائيلي رغم أن كتائبهم منظمة ومسلحة واستَخدموا المسيّرات على نطاق واسع في عملية إسقاط النظام.
هذه الهرمية في المسؤولية (يحقّ لي فعلُ ما أشاء، أمّا أنتَ، فأحاكمك على كل شاردة وواردة وبطريقة استعلائية) يتحمّل مسؤوليتها فواعل العالَم السني السياسية بلا شك، ولكن أيضاً عدم قدرة جبهة المقاومة على مخاطبة هذا العالم. ولا يَكفي القول إنّ الأموال الخليجية تسمّم عقول هذه الشعوب؛ بدلاً من جلد الذات على مساندة شعب غزة، عليك أن تكون فخوراً بما قدّمته (قدّمت أغلى ما لديك)، وعلى العالم الإسلامي أن يُجيب عمّا قدّمه لغزة في هذه الحرب (وفي غيرها طبعاً) وجعله يَنشغل في التبرير للحكم السوري الجديد على عدم إطلاقه أي رصاصة تجاه الاحتلال الإسرائيلي.
- هناك طبعاً ما ذكرناه سابقاً عن إضعاف قسم الأدب في الولايات المتحدة (ومناهج نقد السلطة التي انبثقتْ عنه) مقابل تفويض قسم الفلسفة التحليلي بتعريف السياسة إذ تَخلو من عبارات مثل الإمبريالية والمقاومة ويتمّ استبدالها بعبارات رياضية مثل «التناسبية في الردّ». لن أتوسّع في هذا المجال كي لا يُقال إنني أقدّم معادلات في غير وقتها (لم يكن وقتها قبل الحرب ولا هو بعدها ولا هو خلالها طبعاً)، ولكن آمل أن نتوقّف عن السؤال الأمني الهوليوودي عمّا حصل ونَبدأ تحوّلاً باتجاه التأويل السياسي للأحداث، عسى ألا تَذهب دماء شهدائنا (وشهيدنا الأقدس) هدراً. هناك سياقات سياسية كان يمكن تفكيكها قبلاً، وفشل واحدة منها فقط كان كافياً لإبطال مفاعيل الحرب؛ أمّا عاطفياً وشعرياً، فعلينا أن نركّز أكثر على الفخر بتضحياتنا وسؤال الآخرين عن تضحياتهم.